http://www9.0zz0.com/2009/04/15/09/259227936.gifأبطل ابن الهيثم نظريات إقليدس وبطليموس في مجال الإبصار، وأظهر فساد بعض جوانبها، ثم في أثناء ذلك قدَّم وصفًا دقيقًا للعين وللعدسات وللإبصار بواسطة العينين، ووصف أطوار انكسار الأشعة الضوئية عند نفوذها في الهواء المحيط بالكرة الأرضية بعامة، وخاصة إذا نفذ من جسم شفاف كالهواء والماء والذرات العالقة بالجو، فإنه ينعطف - أي ينكسر - عن استقامته.
وقد بحث في (الانعكاس) وتبيان الزوايا المترتبة على ذلك، كما تطرَّق إلى شرح أن الأجرام السماوية تظهر في الأفق عند الشروق قبل أن تصل إليه فعلاً، والعكس صحيح عند غروبها، فإنها تبقى ظاهرة في المجال الأفقي بعد أن تكون قد احتجبت تحته، وهو أول من نوَّه إلى استخدام الحجرة السوداء التي تعتبر أساس التصوير الفوتوغرافي.
والكتاب الذي خلَّد اسم ابن الهيثم عبر القرون هو "كتاب المناظر"، ويوضح هذا الكتاب تصور البصريات كنظرية أولية في الإبصار، مختلفة جذريًا عن فرض الشعاع المرئي الذي حافظ عليه التقليد الرياضي منذ إقليدس وحتى الكندي.
ولقد أدخل ابن الهيثم أيضًا منهجية جديدة على هذا التفسير لعملية الإبصار، وبهذا تمكن من صياغة مسائل كانت إمّا غير مفهومة طبقًا لنظرية الشعاع البصري، أو مُهمَلة من جانب فلاسفة يهدفون أساسًا إلى تفسير ماهية الرؤية أكثر من اهتمامهم بشرح كيفية حدوث الإبصار!
وعلى الرغم من مكانة ابن الهيثم وبحوثه المبتكرة في علم الضوء، إلا أنه ظل مغمورًا لا يعرفه كثير من الناس، حتى قيَّض الله له من يكشف عن جهوده ويُنقِّب عن آثاره ويجليها، وكان من هؤلاء العالم العربي مصطفي نظيف، وذلك حين كتب عنه دراسة طيبة رائدة نشرتها جامعة القاهرة في مجلدين، وقد بذل فيها جهدًا مضنيًا في قراءة مخطوطات ابن الهيثم ومئات المراجع الأخرى، حتى خَلُصَ إلى حقيقة صادقة، وهي أنَّ ابن الهيثم يُعَد واضع أسس علم الضوء بالمعنى الحديث!!
يقول الأستاذ مصطفي نظيف: "لقد قلب ابن الهيثم الأوضاع القديمة، وأنشأ علمًا جديدًا أبطل فيه علم المناظر، الذي أنشأه اليونان، كما أنشأ علم الضوء الحديث، وإن أثره في الضوء لا يقل عن أثر (نيوتن) في المكيانيكا، فإن عُدَّ (نيوتن) بحق رائد علم الميكانيكا في القرن السابع عشر فإن ابن الهيثم خليقٌ بأن يُعد بحق رائد علم الضوء في مستهل القرن الحادي عشر".
ابن الهيثم.. رائد علم البصريات الحديث
أثَّرت اكتشافات ابن الهيثم تأثيرًا كبيرًا على التراث الفكري الإنساني بصفة عامة، وما يهمنا في تخصصه العلمي هو كتابه (المناظر)؛ إذ كان ثورة في عالم البصريات، فابن الهيثم لم يتبنَّ نظريات بطليموس ليشرحها أو حتى يجري عليها بعض التعديل، بل إنه رفض عددًا من نظرياته في علم الضوء، بعدما توصل إلى نظريات جديدة غدت نواة علم البصريات الحديث.
فقد كان بطليموس - كما أشرنا - يزعم أن الرؤية تتم بواسطة أشعَّة تنبعث من العين إلى الجسم المرئي، وقد تبنى العلماء اللاحقون هذه النظرية، ولما جاء ابن الهيثم نسف هذه النظرية في كتابه "المناظر"، وبيَّن أن الرؤية تتم بواسطة الأشعة التي تنبعث من الجسم المرئي باتجاه عين المبصِر، وبعد سلسلة من الاختبارات أجراها ابن الهيثم بيّن أن الشعاع الضوئي ينتشر في خط مستقيم ضمن وسط متجانس.
وقد أثبت ذلك في كتاب المناظر فقال: "إمّا أن يكون (أي الشعاع ) جسمًا أو لا، فإن كان جسمًا فنحن إذا نظرنا إلى السماء ورأينا الكواكب؛ فقد خرج من البصر جسمٌ ملأ ما بين السماء والأرض ولم ينقص من البصر شيء، وهذا محال في غاية الاستحالة وفي غاية الشناعة، وإن لم يكن جسمًا فهو لا يحس هو نفسه بالبصر، فالإحساس ليس إلا للأجسام ذات الحياة..".
ثم بعد مناقشة مثل هذه الآراء وغيرها أدلى برأيه (في الفصل السادس من المقالة الأولى)؛ فقال: "فلنحرِّر الآن ما استقرَّ من جميع ما ذكرناه؛ فنقول: إن البصر يُحِسُّ بالضوء واللون اللذين في سطح المبصَر من الصورة التي تمتد من الضوء واللون اللذين في سطح المبصَر في الجسم المشِفّ المتوسط بين البصر والمبصَر، وليس البصر شيئًا من صور المبصَرات إلا من سموت الخطوط المستقيمة التي تُتَوَهَّم ممتدة بين المبصَر ومركز البصر فقط، وإذا قد تحرَّر ذلك وتبين مع هذه الحال أن هذا المعنى ممكن وغير ممتنع فإنّا نحرِّر الآن الدعوى..".
كذلك برهن ابن الهيثم رياضيًا وهندسيًا علي كيفية النظر بالعينين معًا إلى الأشياء في آنٍ واحد دون أن يحدث ازدواج في الرؤية برؤية الشيء شيئين، وعلَّل ابن الهيثم ذلك بأن صورتي الشيء المرئي تتطابقان علي شبكية العينين، وقد وضع ابن الهيثم بهذه البرهنة وذلك التعليل الأساس الأول لما يُعرَف الآن باسم الاستريسكوب.
وكان ابن الهيثم أول من درس العين دراسة علمية، وعرف أجزاءها وتشريحها ورسمها، وأول من أطلق علي أجزاء العين أسماء أخذها الغرب بنطقها أو ترجمها إلى لغاته، ومن هذه الأسماء : القرنية Cornea، والشبكية Retina، والسائل الزجاجيVitrous Humour ، والسائل المائي Aqueous Humour.
ومن أهم إنجازاته كذلك في هذا المجال - كما يتضح من كتابه "المناظر" - ما يلي:
- أنه أول من أجرى تجارب بواسطة آلة الثقب أو البيت المظلم أو الخزانة المظلمة واكتشف منها أن صورة الشيء تظهر مقلوبة داخل هذه الخزانة؛ فمهد بهذا الطريق إلى ابتكار آلة التصوير، وبهذه الفكرة وتلك التجارب سيق ابن الهيثم العالمين الإيطإليين "ليوناردو دوفنشى" و"دلا بورتا" بخمسة قرون.
- وضع ابن الهيثم - ولأول مرة - قوانين الانعكاس والانعطاف في علم الضوء، وعلَّل لانكسار الضوء في مساره، وهو الانكسار الذي يحدث عن طريق وسائط كالماء والزجاج والهواء، فسبق ابن الهيثم بما قاله العالم الإنجليزي نيوتن.
- قام بتعريف الضوء بصورة قريبة مما نعرفه اليوم، وذلك بأنه جسم مادي لطيف يتألَّف من أشعة لها أطوال وعروض، وناقش خصائصه، وقام بتعريف الانعكاس، وحدد بصورة قاطعة أن زاوية السقوط تساوي زاوية انعكاس الضوء في المرايا.
- كان أول من قال بأن للضوء سرعة محددة يمكن قياسها.
- حدَّدَ اتجاه انكسار الضوء عند انتقاله من وسط إلى وسط أقل أو أكثر كثافةً من الأول، فيكون الانكسار (الانعطاف في لفظه) مبتعدًا أو مقتربًا من العمود المقام على المستوى الفاصل بين الوسطين.
- كان أحد أبرز إنجازاته في كتاب المناظر تجربة الصندوق الأسود، وتعتبر الخطوة الأولى في اختراع الكاميرا، وكما يقول سارتون: فابن الهيثم يعتبر أول مخترع للكاميرات، وهي ما يُسمَّى عمليًاCamera obscura).
- عرض لصور الانعكاس من على السطوح المختلفة، وهو ما عُرِفَ باسم مسألة ابن الهيثم، وفيها تعامل ابن الهيثم مع معادلة من الدرجة الرابعة، وذلك لتحديد مكان نقطة الانعكاس لكافَّة أشكال الأسطح.
يقول الدكتور محمد يونس الحملاوي: "لقد حفر ابن الهيثم مكانه في سجل تقدم البشرية بحروفٍ من نور حين درس واستوعب ونقد وفنَّد المسلمات التي عاشت عند رواد علم المناظر من أمثال إقليدس وبطليموس وغيرهما.. لقد أضاف الكثير لعلم الضوء حين قال بوجود سرعة للضوء، وحدَّد أن هذه السرعة متناهية، ولكنها كبيرة جدًا لدرجة تبدو في بعض الأحيان لا متناهية، وبرهن على ذلك معتمدًا على الأجهزة التي ابتكرها. لقد اخترع ابن الهيثم وصنع بيديه العديد من الأجهزة الفلكية والطبيعية في مجال تجاربه، وبهذا يكون ابن الهيثم قد سبق كُلاً من ديكارت ونيوتن، كما سبق ابن الهيثم أينشتاين حينما بيَّن أن سرعة الضوء محدودة، ورغم هذا يتعلم طلابنا تلكم الحقائق عن أي طريق وعن كل طريق إلا عن أصله العربي الأصيل، وعن كل العلماء إلا عن علماء أمتهم!!".
فلقد سبق ابن الهيثم كلاً من فيتلو وكبلر في وضع أساس علم البصريات ورغم ذلك مازلنا نشير إلى كليهما على أنهما واضعا أساس علم البصريات في كتبنا!!
واستكمالاً لمسيرة العطاء عند ابن الهيثم فإنا نترك للمقال القادم بإذن الله الحديث عن شخص ابن الهيثم نفسه، إضافة إلى منهجه العلمي الذي سبق به روجر بيكون في البحث العلمي الحديث، وإضافة كذلك إلى استعراض مؤلَّفاته القيِّمة والمتنوِّعة، فضلاً عن تأثير كتابه العجيب "المناظر" على الغرب الذين فُتنوا به فتونًا..
وشكرا لكم